مستقبل إدارة المخاطر

تعتبر إدارة المخاطر لدى البنوك والمؤسسات المالية من اهم الاسس التي تقوم عليها الصناعة المصرفية، ومن احد الأدلة على أهميتها ان تسعة عشر معيارا من اصل تسعة وعشرون معيارا لمعايير بازل للرقابة الاكثر فاعلية على البنوك والتي تم مراجعتها وتحديثها في العام 2012. يدعم ذلك الكيفية التي تطورت بها ادارة المخاطر خلال الخمسة عشر عاما السابقة وحدث خلالها ازمة ماليه عالميه كبيره، استعرضت عدد من المنشورات الصادرة عن بيوت خبرة كبيرة كيف من المتوقع ان يكون مستقبل إدارة المخاطر خلال الاعوام القادمة، وتاليا اهم التوقعات الواردة فيها.

انصب الاهتمام في مجال ادارة المخاطر قبل عام 2000 على ادارة المخاطر الائتمانية وبنماذج modules بسيطة مع البدء بالاهتمام في مخاطر السوق، بعد ذلك وحتى العام 2007 صدرت مقررات بازل2 وزاد الاهتمام باحتساب رأس المال الاقتصادي والارتقاء في عمليات مخاطر الائتمان من حيث الفصل بين البيع والتسويق من جهة والتحليل والرقابة والتنفيذ من جهة اخرى، واصبح التركيز أكثر على ضمان حوكمة مناسبة لإدارة المخاطر. في الفترة ما بين 2008 و2012 قادت الازمة المالية العالمية التحديثات على ادارة المخاطر، وبدأ تطبيق ما يسمى التقييم الداخلي لكفاية راس المال ICAAP وإدارة الحجم المناسب لرأس المال، وكذلك وضع اطر لحجم المخاطر المقبولة Risk Appetite، مع البدء بمنح مزيد من الاهتمام لمخاطر السيولة وكذلك المخاطر غير المالية. بعد العام 2012 والى يومنا هذا كان التركيز على مفهوم الخطوط الثلاث للدفاع(وان كان هناك من بدأ يشكك بهذا المفهوم)، تدعيم ثقافة ادارة المخاطر، القيام بالاختبارات الضاغطة، إشراك إدارات المخاطر في اتخاذ القرارات اليومية day to day decisions، وتطبيق معيار الإبلاغ المالي رقم9.

توجهات من المتوقع ان تتأثر بها إدارات المخاطر

لاشك ان التغيرات التي ممكن ان تحصل على الاعمال سوف يعني ذلك حصول تغيير موازي في طريقة إدارة المخاطر، ولعل هناك ستة توجهات من المتوقع ان تتأثر بها إدارات المخاطر خلال الفترة القادمة وهي على النحو التالي

1. التطورات الحاصلة على التشريعات والمتطلبات الرقابية المختلفة

في حين كان التركيز قبل الازمة المالية على قياس راس المال ضمن مقررات بازل 2 وتشريعات مكافحة غسل الاموال وKYC، انتقل التركيز بعد الازمة الى اصدار تعليمات اكثر شده بخصوص مخاطر السوق ومكافحة غسل الاموال، السيولة والرفع المالي، FATCA، الاختبارات الضاغطة، تعليمات ال recovery و ال resolution، مخاطر تكنولوجيا المعلومات، الربط مع العوامل والسيناريوهات الاقتصادية المؤثرة، التحسين على نوعية رأس المال المطلوب. وقد يكون العمل في المرحلة القادمة على تشريعات تخص حماية البيانات وامن المعلومات، تشريعات أكثر تشددا فيما يخص مكافحة غسيل الأموال وما يتبعه من حجم كبير للغرامات التي قد تتحملها البنوك، مواضيع مثل الجرائم الماليةfinancial crimes وكذلك operational resilience، بازل 4 مع متطلبات أكثر تشددا وتفصيلا، تشريعات للتسعير وحماية العملاء. التواؤم مع معيار الإبلاغ المالي رقم 9 وما يتبع ذلك من تغيير على طبيعة القيام بالأعمال

وبالمحصلة قد يؤثر ما ذكر كله على الحاجة الى زيادة في رؤوس أموال البنوك او إعادة هيكلة موجوداتها ومخاطرها وذلك بالتنسيق بين إدارات الاعمال والمخاطر

وفي حين تقوم البنوك بتدعيم قدراتها الآلية ومبادرات الأتمتة لديها وبما يضمن تقديمها أفضل الخدمات وبأقل التكاليف الجارية الممكنة، أصبحت هناك تكاليف أخرى جديدة مرتفعة فيما يخص ضمان الامتثال، وعليه أصبح لزاما على إدارات المخاطر المحاولة بتخفيض حجم تكاليفها ما أمكن.

من الجدير بالذكر ان الحجم الكبير من التشريعات الجديدة تجعل دور إدارة المخاطر غير مفهوم أحيانا ويعزز عدم التفاهم الحاصل أصلاً احيانا بين إدارات المخاطر والأعمال لتوجهات وممارسات بعضهم البعض. مع ضرورة اتمتة عمليات الامتثال مع هذه المتطلبات الرقابية.

2. التغير في توقعات العملاء والتطور التكنولوجي:

التغير في توقعات العملاء والتطور التكنولوجي: اصبح التركيز حاليا في انشاء الاعمال وتطويرها على تلبية متطلبات العملاء وليس اطلاق المنتجاتCustomer oriented instead of being Products oriented ، يطلب العملاء الحصول على الخدمات من خلال القنوات الالكترونية بدلا من القنوات التقليدية خاصة الأجيال الشابة، وكذلك قرارات سريعة جاهزة إضافة إلى منتجات يتم تصميمها حسب رغباتهم، ويرى البعض ان البنوك بشكلها الحالي التقليدي لن تستمر ولن تستطيع الاستمرار بالمنافسة، حيث إن منشآت تمويلية جديدة مثل Kreditech او Kabbage تقدم خدماتها بطريقة مؤتمتة بشكل سريع وقد تربط قراراتها بناء على معطيات منها التدفقات النقدية للعملاء على PayPal مثلا او حتى سلوك العميل على وسائل التواصل الاجتماعي مثل التويتر، تصنيف العميل على الامازون او eBay وغيرها من مصادر معلومات غير تقليدية. أي ان التكنولوجيا Fin-Tech ستصبح عاملا أساسيا سواء في التسويق من خلال منصات الكترونية، او تقديم الخدمات الالكترونية، او حتى اتخاذ القرارات وتنفيذها، والبنك الذي لا يتواءم مع ذلك سواء من جانب قطاعات الاعمال او حتى إدارات المخاطر لن يستطيع الاستمرار بالمنافسة.

3. التطور التكنولوجي ودخول علم الرياضيات كمحرك أكبر لإدارة المخاطر

من المتوقع الاستفادة من التطور الحاصل في علم تحليل البيانات Data analytics حيث يتم اتخاذ القرار باستخدام ما يسمى Machine learning وكذلك بناء على حجم كبير ومعقد من البيانات Big Data وخوارزميات معقدة وبالطبع ما يستلزمه ذلك من موارد بشرية مؤهلة، وبحيث يحسن من القدرة على التنبؤ وبما يمكن من اتخاذ قرارات افضل وبكلفة اقل، وان توافق على طلبات ائتمانية ضمن هذا الأسلوب في حين يتم رفضها في الأدوات المستخدمة حاليا لاتخاذ القرارات استخداما لبيانات غير تقليدية مثل بيانات الشبكات الاجتماعية ، علما ان هذا الأسلوب يستخدم في عديد من القطاعات التي تعتمد على البيانات مثال ذلك البطاقات الائتمانية،كذلك يساهم في اكتشاف الجرائم المالية ، توقع الخسائر التشغيلية وهي وسائل اسهل واقل كلفه للسيطرة على مخاطر الائتمان ومخاطر الامتثال.

5. نشوء أنواع جديدة من المخاطر مثل:

مخاطر استخدام الأنظمة والنماذج models risk غير دقيقه وما يتبع ذلك من اتخاذ قرارات غير صحيحة، ، وما يتطلب ذلك من توفر معرفه معمقه بالتحليل الاحصائي ، اساسيات البرمجة، إدارة متقدمة للبيانات لدى مدراء المخاطر بالمستقبل.

كما انه هناك مخاطر استخدام التكنولوجيا والاختراقات الأمنية Cyber risk وما يتطلب ذلك من أدوات مكلفة لمكافحة هذه المخاطر، كذلك تدريب وتعليم ونشر تقافة امن المعلومات، إضافة الى التامين ضد المخاطر السيبرانيه. هذه المخاطر التي تؤثر على عدة جوانب منها بيانات العملاء وكذلك توقف عمليات البنك.

اما مخاطر ال contagion risk من حيث التأثير السريع المتتالي والمتبادل بين الاقتصاد والبنوك والشركات، حيث تتسارع تأثير الازمات المالية سواء عابرة للحدود بين البلدان المختلفة او التأثير على النظام المصرفي وادخاله في ازمة وذلك في حال تعثر أحد البنوك. وقد ساهم بذلك الارتباط ما بين الأسواق المالية وبما يسهل انتقال التذبذب في الأسعار وعدم الاستقرار إضافة إلى انخفاض الثقة في البنوك بعد الأزمة المالية العالمية. هذا الأمر يرتب على البنوك ضرورة قياس ومتابعة هذا النوع من المخاطر وان تتم مراعاتها عند اتخاذ القرارات، إضافة لوضع السقوف اللازمة ومراقبة البنوك ذات المخاطر النظامية دولياGSIB

ما المتوقع ان تقوم به ادارات المخاطر في البنوك؟

من المتوقع ان تبدأ البنوك القيام في مبادرات مؤثرة وبأجل متوسط لكي يسيروا في الاتجاه الصحيح وتحقيق المطلوب، من هذه المبادرات:

من المتوقع ان تتبنى ادارات المخاطر في البنوك رؤيا تقوم على اساس مساعدة قطاعات الاعمال والتعاون معهم بتقديم خدمات مميزة بوقت سريع وبدون اخطاء من خلال وسائل الكترونية وإجراءات مؤتمتة وخدمات ذات إضافة نوعية. ولتحقيق ذلك يتطلب ان يكون لدى ادارات المخاطر نموذج مستهدف لاداء اعمالها target operating model تتعامل وبشكل وقائي مسبق مع اي نوع من انواع المخاطر من خلال التركيز على تقديم التحليلات والاستشارات وتوسيع مدى المسؤوليات. وان تكون العمليات تتم بشكل مؤتمت وبتقليل الاجتهاد ما امكن، وان تستغل التطورات الحاصلة في تكنولوجيا المعلومات سواء من حيث التطبيقات والبرمجيات الجديدة وكذلك الحجم الكبير المتوفر للبيانات.

​​

ان تنتقل ادارة المخاطر من كونها تهتم بالاعمال على مستوى العمليات الافرادية ( (single transaction وكذلك بقيمة المخصصات وراس المال، الى ان تعمل على استشراق المستقبل وعلى العمل على مستوى المحفظة ونشاطات البنك كاملة، وبحيث لا تكون النظرة الى مدراء المخاطر بانهم اداة لقتل الاعمال واستقطابها “killing the business” . حيث الاطار التقليدي حالياً لادارة المخاطر اقرب ما تكون الى المكتب الخلفي back office وتعمل على حل المشاكل، واعداد السياسات والاشارة الى خروقات سابقة وبالمقابل احيانا كثيرا ما تتلقي اللوم على القيام بأعمالها.

​​

ان تكون ادارة المخاطر على مستوى البنك Enterprise Risk Management عملية تتاثر بدور مجلس ادارة البنك وادارته في عملية وضع الاستراتيجيات للمؤسسة كاملة ويتم من خلالها التعرف على الاحداث التي تؤثر على المؤسسة وبحيث يتم ادارة المخاطر لتكون ضمن الحدود المقبولة وبما يؤدي الى تحقيق الاهداف الموضوعة للمؤسسة. (COSO). وبحيث يكون لرئيس ادارة المخاطر دور في وضع الاستراتيجيات وتنفيذها وليس مراجعتها فقط، وان يكون له دور في المخاطر المرافقة لتحقيق المسذتهدفات KPI’s والتاكد انه قد تم ادارتها بحصافة والسيطرة عليها. وان يكون ضمن لجنة مجلس ادارة المخاطر او امين سرها، وكذلك يرفع تقاريره اليها.

​​

يتبع كل ذلك تطوير ضروري على مهارات العاملين وبحيث تتنافس مع القطاعات الاخرى في مجال التكنولوجيا والرياضيات. حيث ان العاملين في ادارات المخاطر سوف ينتقلوا من العمل المعتمد على الاجراءات operational processes واعداد التقارير reporting الى العمل التحليلي Analytics ، ويتم البدء باستخدام ال Machine learning ما امكن وفي بعض الجوانب مثل اتخاذ القرارات الائتمانية.

يتم الابتعاد عن الاجتهاد في اتخاذ القرارات الى مراجعة ال models التي يقوم عليها العمل، وبالتالي اتخاذ القرارات بناء على هذه النماذج واعتماداً على حقائ قائمة

​​

ان تصبح عملية التواؤم مع التشريعات والتعليمات جزء من اتخاذ القرار وليس عبأً عليه، مع أتمتة ما يمكن من ذلك، ومثلها أتمتة KYC

​​

ان يتم تجزئة المهام بين الانظمة الآلية المختلفة المستخدمة وبين الموارد البشرية العاملة في البنوك وبأنواع المخاطر المختلفة وبالتالي القيام بالمهام بشكل أكثر كفاءة ودقة وكذلك اقل كلفة

بالمحصلة فان ادارات المخاطر في المستقبل ستعمل على تحسين مستوى وكيفية التعرف على المخاطر المقبولة التي يدخلها البنك، المساهمة بالتحسين على خدمة العملاء من حيث حجم المعلومات المطلوبة وسرعة اتخاذ القرارات، تبرير وتخفيف تكاليف ادارات المخاطر والقيام بالاعمال من خلال تدعيم الاتمتة، خلق الابداع ومستوى مرتفع من التحليل العلمي من خلال موظفين مؤهلين، وبالمحصلة اتخاذ قرارات حصيفة ومبنية على مسببات موضوعية وبيانات دقيقة حديثة وبعيدة عن الاجتهاد وبما يحقق الاهداف الموضوعة للبنك.